حين أفكر في الذين فجروا القنصلية الإيطالية في القاهرة يوم السبت 11 يوليو أو غيرها من المنشآت، من دون مبالاة بحياة الآخرين، أميل إلي الاعتقاد بأن كراهية البشر والعالم بشكل شخصي هي التي تقودهم إلي القضاء على الآخرين وعلى أنفسهم، ولكي لا يواجهوا حقيقة أنهم مجرد قتلة، فإنهم يتذرعون بسطح أسانيد نظرية تبدي لهم سواد القلب كأنه رسالة فكرية جليلة! لكن هناك خيطا من النور أراه عبر امتداد التاريخ المصري يواجه تلك الكراهية ويحرث الأرض للمحبة بدأب وإصرار. منذ أسابيع قليلة اتجهت إلي المهندسين لألتقي بالكاتب القاص الكبير يوسف الشاروني، وهو – لمن لا يعرفه من الجيل الجديد - أحد آباء القصة القصيرة المصرية والعربية الحديثة. نشر أولى مجموعاته " العشاق الخمسة" عام 1954، وأثارت ضجة في حينه، ومازالت قصصها تعد من عيون السرد العربي، خاصة رائعته التي لا تنسى" دفاع منتصف الليل". أصدر الشاروني فيما بعد " رسالة إلي امرأة " ، ثم " في الزحام" وغيرها. ورغما عن أن الكاتب العزيز من مواليد 1924، تجاوز التسعين، إلا أنه ممتلئ بالحيوية لا ينضب ينبوع إبداعه الثري. ذهبت إليه وبعد قليل طلب لي بمودته فنجان قهوة، فلما سألته : وأنت ألن تشرب شيئا ؟ قال لي : أنا أنتظر عبد القادر حميدة، سيفرغ من صلاة الجمعة ويأتي إلينا فنشرب قهوتنا معا. هذه عادتنا كل يوم جمعة. حين جاء الكاتب والشاعر عبد القادر حميدة طالت الجلسة ما بين الضحك والحكايات، وعندما قررنا الانصراف نهض الشاروني يخرج من المقهى مستندا إلي ذراع أخيه عبد القادر الذي أحاطه بذراعيه بحرص وإعزاز صداقة العمر! تأملت الرجلين: حميدة الذي تجاوز الثمانين والشاروني الذي تجاوز التسعين وهما يعبران الطريق معا، من دون أن يحول اختلاف العقيدة بينهما وبين الأخوة والمحبة الغامرة. قلت لنفسي : هذا معدن مصر التي تؤمن بأن " الله رحمن رحيم " وبأن " الله محبة" وتمضي متساندة على الطريق في الطفولة والكبر. تذكرت علاقة صداقة مماثلة بين نجيب محفوظ وسلامة موسى وكان موسى هو من نشر أول رواية لمحفوظ وهي " عبث الأقدار". وقد كتب محفوظ عن تلك الصداقة يقول : " كنت أمضى العام كله وأنا أكتب رواية واحدة ، ثم آخذها تحت إبطي في آخر العام وأركب الترام إلي الفجالة، أدخل حارة ميخائيل جاد وأدق باب أحد البيوت، فيخرج إلي سلامة موسى ويأخذ مني الرواية، وأسبوع يمر وأروح لسلامة موسى البيت فأفاجأ به يقول لي : مش بطال لكن حاول مرة تانية . وكان الأديب الوحيد الذي قبل أن يقرأ رواياتي الأولى وهي مخطوطة، بل كان سلامة موسى هو أحد العوامل الكبرى التي ساعدتني في حسم اختياري الأدبي.. ". ويضيف محفوظ : " إنه أستاذي العظيم ومن النادر في الماضي أو الحاضر أن تجد رجلا مثله .. لو أني أملك قوة البعث لبعثت حيا هذا الرجل العظيم الذي أثر على جيل بأكمله". تذكرني لحظات النور هذه بما قاله الروائي العظيم دوستويفسكي :" الذين يتوقون للتعرف إلي إله حي عليهم أن يبحثوا عنه في المحبة البشرية ". نعم. في المحبة يمكنك أن ترى النور دائما.